الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{ولقد آتينا} أي: بما لنا من العظمة {داود وسليمان} ابنه وهما من أتباع موسى عليهم السلام وبعده بأزمان متطاولة {علمًا} أي: جزأ من العلم عظيمًا من منطق الطير والدواب وتسبيح الجبال وغير ذلك لم نؤته لأحد من قبلهما ولما كان التقدير فعملا بمقتضاه، عطف عليه قوله: {وقالا} شكرًا عليه ودلالة على شرف العلم وتنبيهًا لأهله على التواضع {الحمد} أي: الإحاطة بجميع أوصاف الكمال {لله} أي: الذي لا كفء له {الذي فضلنا} أي: بما آتانا من النبوّة والكتاب وتسخير الشياطين والجنّ والإنس وغير ذلك {على كثير من عباده المؤمنين} أي: ممن لم يؤت علمًا أو مثل علمهما، وفي ذلك تحريض للعالم أن يحمد الله تعالى على ما آتاه من فضله ويعتقد أنه وإن فضل على كثير فقد فضل عليه كثير، فلا يتكبر ولا يفتخر ويشكر الله تعالى، وينفع به المسلمين كما نفعه الله تعالى به، ثم إنه تعالى أشار إلى فضل سليمان بأنه جمع إلى ما آتاه ما كان منح به أباه بقوله تعالى: {وورث سليمان داود} أباه عليهما السلام دون سائر أولاده وكان لداود تسعة عشر ابنًا فأعطي سليمان ما أعطي داود من الملك وزيد له تسخير الريح وتسخير الشياطين، قال مقاتل: كان سليمان أعظم ملكًا من داود وأقضى منه، وكان داود أشد تعبدًا من سليمان، وكان سليمان شاكرًا لنعم الله تعالى {وقال} تحدّثًا بنعمة ربه ومنبهًا على ما شرّفه الله تعالى به ليكون أجدر في قبول الناس ما يدعوهم إليه من الخير {يا أيها الناس علمنا} أي: أنا وأبي بأيسر أمر وأسهله {منطق الطير} أي: فهم ما يريده كل طائر إذا صوّت، فسمى صوت الطير منطقًا لحصول الفهم منه كما يفهم من كلام الناس.روي عن كعب الأحبار أنه قال: صاح ورشان عند سليمان عليه السلام فقال أتدرون ما يقول: قالوا: لا قال: إنه يقول: لدوا للموت وابنوا للخراب، وصاحت فاختة فقال: أتدرون ما تقول قالوا: لا قال: فإنها تقول: ليت ذا الخلق لم يخلقوا، وصاح طاووس فقال أتدرون ما يقول: قالوا: لا قال: فإنه يقول: كما تدين تدان، وصاح هدهد فقال أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا قال: فإنه يقول: من لا يرحم لا يرحم، وصاح صرد فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا لا قال فإنه يقول: استغفروا الله يا مذنبين، وصاح طيطوى فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا لا قال فإنه يقول: كل حيّ ميت وكل جديد بال، وصاح خطاف فقال: أتدرون ما يقول قالوا: لا قال فإنه يقول: قدّموا خيرًا تجدوه، وهدرت حمامة فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا، قال فإنها تقول: سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه، وصاح قمري فقال: أتدرون ما يقول قالوا: لا، قال: فإنه يقول سبحان ربي الأعلى، قال والغراب يدعو على العشار، والحدأة تقول كل شيء هالك إلا الله، والقطاة تقول من سكت سلم، والببغاء تقول ويل لمن الدنيا همه والضفدع يقول سبحان رب القدّوس، ويقول أيضًا سبحان ربي المذكور بكلّ لسان، والباز يقول سبحان ربي وبحمده، وعن مكحول قال: صاح دراج عند سليمان فقال أتدرون ما يقول هذا؟ قالوا: لا قال: فإنه يقول: الرحمن على العرش استوى.وروي عن فرقد السنحيّ قال مرّ سليمان على بلبل فوق شجرة يحرّك رأسه ويميل ذنبه فقال لأصحابه أتدرون ما يقول هذا البلبل؟ قالوا الله ونبيه أعلم قال يقول أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء: وهو بالفتح والمدّ التراب، وقال أبو عبيد: هو الدروس، وفي حديث صفوان: «إذا دخلت بيتي فأكلت رغيفًا وشربت عليه فعلى الدنيا العفاء» وروي أنّ جماعة من اليهود قالوا لابن عباس إنا سائلوك عن سبعة أشياء فإن أخبرتنا آمنًا وصدّقنا، قال: اسألوا تفقهًا ولا تسألوا تعنتًا، قالوا: أخبرنا ما يقول القنبر في صفيره والديك في صعيقه والضفدع في نعيقه والحمار في نهيقه والفرس في صهيله وما يقول الزرزور والدرّاج، قال نعم أمّا القنبر فيقول: اللهمّ العن مبغضي محمد وآل محمد، وأمّا الديك فيقول: اذكروا الله يا غافلين، وأمّا الضفدع فيقول: سبحان المعبود في لجج البحار، وأمّا الحمار فيقول: اللهمّ العن العشار، وأمّا الفرس فيقول: إذا التقى الصفان سبوح قدّوس رب الملائكة والروح، وأما الزرزور فيقول: اللهمّ إني أسألك قوت يوم بيوم يا رزاق، وأمّا الدراج فيقول: الرحمن على العرش استوى قال: فأسلم اليهود وحسن إسلامهم.ويروى عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جدّه عن الحسين بن عليّ قال: إذا صاح النسر قال: ابن آدم عش ما شئت آخره الموت، وإذا صاح العقاب قال: في البعد من الناس أنس، وإذا صاح القنبر قال: إلهي العن مبغضي آل محمد، وإذا صاح الخطاف قرأ: الحمد لله رب العالمين ويمدّ ولا الضالين كما يمدّ القارئ.وقول سليمان عليه السلام {وأوتينا من كل شيء} أي: تؤتاه الأنبياء والملوك، قال ابن عباس من أمر الدنيا والآخرة، وقال مقاتل: يعني النبوّة والملك وتسخير الجنّ والإنس والرياح {إن هذا} أي: الذي أوتيناه {لهو الفضل المبين} أي: البين في نفسه لكلّ من ينظره الموضح لعلوّ قدر صاحبه، روي أنّ سليمان أعطي ملك مشارق الأرض ومغاربها فملك أربعين سنة وستة أشهر جميع أهل الدنيا من الجنّ والأنس والدواب والطير والسباع وأعطى مع ذلك منطق الطير، وفي زمانه صنعت الصنائع العجيبة، فقوله: {إنّ هذا لهو الفضل المبين} تقرير لقوله: {الحمد لله الذي فضلنا} والمقصود منه الشكر والحمد، كما قال صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر»، فإن قيل: كيف قال علمنا وأوتينا وهو كلام المتكبر؟.أجيب بوجهين: الأوّل: أنه يريد نفسه وأباه كما مرّ، الثاني: أنّ هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع وكان ملكًا مطاعًا، ولما كان هذا مجرّد خبر أتبعه ما يصدّقه بقوله تعالى: {وحشر} أي: جمع جمعًا حتمًا بقهر وسطوة وإكراه بأيسر أمر {لسليمان جنوده} ثم بين ذلك بقوله تعالى: {من الجنّ} وبدأ بهم لعسر جمعهم ثم ثنى بقوله تعالى: {والإنس} لشرفهم ثم أتبع من يعقل بما لا يعقل بقوله: {والطير} فقدّم القسم الأول لشرفه وذلك كان في مسير له في بعض الغزوات {فهم} أي: فتسبب عن مسيره بذلك أنهم {يوزعون} أي: يكفون بحبس أولهم على آخرهم بأدنى أمر وأسهله ليتلاحقوا فيكون ذلك أجدر بالهيبة وأعون على النصرة وأقرب إلى السلامة، قال قتادة: كان على كل صنف من جنوده وزعة ترد أوّلها على آخرها لئلا يتقدّموا في المسير، قال والوازع: الحابس وهو النقيب، وقال مقاتل: يوزعون أي: يساقون، وقال السدّيّ: يوقفون، وقيل: يجمعون، وأصل الوزع الكف والمنع.قال محمد بن كعب القرظيّ: كان معسكر سليمان عليه السلام مئة فرسخ خمسة وعشرون للإنس وخمسة وعشرون للجن وخمسة وعشرون للوحش وخمسة وعشرون للطير، وقيل: نسجت له الجنّ بساطًا من ذهب وحرير فرسخًا في فرسخ وكان يوضع كرسيه وسطه فيقعد وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة فتقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة والناس حولهم والجنّ والشياطين حول الناس والوحش حولهم وتظلهم الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة يعني: حرّة وسبعمائة سرّية، فيأمر الريح العاصف فترفعه ثم يأمر الرخاء فتسير به مسيرة شهر، وأوحي إليه وهو يسير بين السماء والأرض أني قد زدت في في ملكك أن لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت به الريح فأخبرتك به، فيحكى أنه مرّ بحراث فقال لقد أوتي آل داود ملكًا عظيمًا فألقته الريح في أذنه فنزل ومشى إلى الحراث وقال: إني مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه ثم قال لتسبيحة واحدة يقبلها الله تعالى خير مما أوتي آل داود واستمرّ سائرًا بمن معه.{حتى إذا أتوا} أي: أشرفوا {على وادي النمل} روي عن كعب الأحبار أنه قال: كان سليمان إذا ركب حمل أهله وخدمه وحشمه، وقد اتخذ مطابخ ومخابز فيها تنانير الحديد وقدور عظام تسع كل قدر عشرة من الإبل يطبخ الطباخون ويخبز الخبازون واتخذ ميادين للدّواب فتجري بين يديه وهو بين السماء والأرض والريح تهوي بهم فسار من اصطخر يريد اليمن، فمرّ بمدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال سليمان هذه دار هجرة نبيّ يخرج في آخر الزمان طوبى لمن آمن به وطوبى لمن اتبعه، ولما وصل إلى مكة رأى حول البيت أصنامًا تعبد من دون الله فلما جاوز سليمان البيت بكى البيت فأوحى الله تعالى إلى البيت ما يبكيك؟فقال: يا رب أبكاني أنّ هذا نبيّ من أنبياءك وقوم من أوليائك مرّوا علي فلم يهبطوا ولم يصلوا عندي والأصنام تعبد حولي من دونك، فأوحى الله تعالى إليه لا تبك فإني سوف أملؤك وجوهًا سجدًا وأنزل فيك قرآنًا جديدًا وأبعث منك نبي آخر الزمان أحب أنبيائي إليّ وأجعل فيك عمارًا من خلقي يعبدونني وأفرض على عبادي فريضة يزفون إليك زفيف النسور إلى وكرها ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها وحنين الحمامة إلى بيضها وأطهرك من الأوثان وعبدة الشياطين، ثم مرّ سليمان حتى مرّ بوادي السدير من الطائف فأتى على وادي النمل هكذا قال كعب إنه واد بالطائف.قال البقاعي: وهو الذي تميل إليه النفس فإنه معروف عندهم إلى الآن بهذا الاسم، وقال قتادة ومقاتل: هو واد بالشأم وجرى عليه البيضاوي، وقيل: واد كانت تسكنه الجنّ وأولئك النمل مراكبهم، وقال نوف الحميري: كان نمل ذلك الوادي مثل الذباب، وقيل: كان كالبخاتي، وقال البغويّ والمشهور: أنه النمل الصغير.فائدة: وقف الكسائي على وادي بالياء، والباقون بغير ياء، فإن قيل: لم عدى أتوا بعلى؟أجيب: بأنه يتوجه على معنيين: أحدهما: أن إتيانهم كان من فوق فأتى بحرف الاستعلاء، والثاني: أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره من قولهم أتى على الشيء إذا أنفذه وبلغ آخره كأنهم، أرادوا أن ينزلوا عند مقطع الوادي لأنهم ما دامت الريح تحملهم في الهوى لا يخاف حطمهم.ولما كانوا في أمر مهول منظره وقربوا من ذلك الوادي {قالت نملة} قال الشعبيّ: كانت تلك النملة ذات جناحين، وقيل: كانت نملة عرجاء فنادت {يا أيها النمل ادخلوا} أي: قبل وصول ما أرى من الجيش {مساكنكم} ثم عللت أمرها فقالت: {لا يحطمنكم} أي: يكسرنكم ويهشمنكم، أي: لا تبرزوا فيحطمكم فهو نهي لهم عن البروز في صورة نهيه وهو أبلغ من التصريح بنهيهم لأن من نهى أميرًا عن شيء كان لغيره أشدّ نهيًا {سليمان وجنوده} أي: لأنهم لكثرتهم إذا صاروا في هذا الوادي استعلوا عليه فضيقوه فلم يدعوا فيه موضع شبر خاليًا {وهم} أي: سليمان وجنوده {لا يشعرون} أي: بحطمهم لكم لاشتغالهم بما هم فيه من أحوال السير، وقولها هذا يدل على علمها بأنهم لو شعروا بهم ما آذوهم لأنهم أتباع نبيّ فهم رحماء، وإنما خاطبتهم خطاب من يعقل لأنها لما جعلت قائلة والنمل مقولًا له كما يكون في أولي العقل أجرت خطابهم، والنمل: اسم جنس معروف واحده نملة، ويقال نملة ونمل بضم النون وسكون الميم، ونملة ونمل بضمهما.وعن قتادة: أنه دخل الكوفة فالتف عليه الناس فقال سلوني عما شئتم، وكان أبو حنيفة رحمه الله تعالى حاضرًا وهو غلام حديث، فقال سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكرًا أم أنثى؟ فسألوه فأفحم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى، فقيل له من أين عرفت؟ فقال من كتاب الله، وهو قوله: قالت نملة ولو كانت ذكرًا لقال قال نملة، قال الزمخشريّ: وذلك أنّ النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى فيميز بينهما بعلامة نحو قولهم حمامة ذكر وحمامة أنثى وهو وهي. انتهى.وردّ هذا أبو حيان فقال: ولحاق التاء في قالت لا يدلّ على أنّ النملة مؤنثة بل يصح أن يقال في الذكر قالت نملة لأن النمل وإن كان بالتاء هو مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث وما كان كذلك كاليمامة والقملة مما بينه في الجمع وبين واحده تاء التأنيث من الحيوان، فإنه يخبر عنه إخبار المؤنث، ولا يدلّ كونه يخبر عنه إخبار المؤنث على كونه ذكرًا وأنثى لأنّ التاء دخلت فيه للفرق لا للدّلالة على التأنيث له الحقيقي، بل دالة على الواحد من هذا الجنس، قال وكان قتادة بصيرًا بالعربية، وكونه أفحم يدل على معرفته باللسان إذا علم أنّ النملة يخبر عنها إخبار المؤنث وإن كانت تطلق على الأنثى والذكر إذ لا يتميز فيه أحد هذين، ولحاق العلامة لا يدل، فلا يعلم التذكير والتأنيث إلا بوحي من الله ا.ه.وقال الطيبي: العجب من أبي حنيفة إن ثبت ذلك عنه لأنّ النملة كالحمامة والشاة تقع على الذكر والأنثى وأطال الكلام في ذلك.فإن قيل: كيف يتصّور الحطم من سليمان وجنوده وكانت الريح تحمل سليمان وجنوده على بساط بين السماء والأرض؟أجيب: بأنّ من جنوده ركبانًا ومنهم مشاة على الأرض تطوى لهم، أو أنّ ذلك كان قبل تسخير الريح لسليمان، ويروى أنّ سليمان لما بلغ وادي النمل حبس جنده حتى دخل النمل بيوتهم، فقد روي أنه سمع كلامها من ثلاثة أميال، وقيل: كان اسمها طاخية.
|